التهيؤ لفتح مكة ومحاولة الإخفاء
»
روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض قريش للميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهز أدوات الحرب الخاصة به، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز؟ قالت: والله ما أدري. فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟ قالت: والله لا علم لي. وفي صباح اليوم الثالث جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا، واستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الناس بنقض الميثاق، وبعد عمرو جاء بديل ثم أبو سفيان وتأكد عند الناس الخبر، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وزيادة في الإخفاء والتعمية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قوامها ثمانية رجال تحت قيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي المروة على ثلاثة برد (البريد: اثنا عشر ميلا تقريبا) من المدينة، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ليظن الظان أنه صلى الله عليه وسلم يتوجه إلى تلك الناحية، ولتذهب بذلك الأخبار، وواصلت هذه السرية سيرها، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة، فسارت إليه حتى لحقته. وحدث أن كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها مالا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد، فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (أي مسافرة) معها كتاب إلى قريش، فانطلقا تعادي بهما خيلهما حتى وجدا المرأة بذلك المكان، فاستنزلاها، وقالا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش) يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟ فقال:لا تعجل علي يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدلت، ولكني كنت امرءا ملصقا في قريش، لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم، وكان من معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا (أي معروفا) يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، و ما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وهكذا أخذ الله العيون، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال.
الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
»
لعشر ليال خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8هـ غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة متجها إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة رضي الله عنهم، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري. ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا، ثم لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبدالله بن أبي أمية، فأعرض عنهما؛ لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى، فقالت له أم سلمة: لايكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا،ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} فأنشده أبو سفيان أبياتا منها: لعمرك إني حين أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى فأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني على الله من طردت كل مطرد (المدلج: السائر ليلا) فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد! وقد حسن إسلام أبي سفيان بن الحارث بعد ذلك، ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه. وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ ماء الكديد فأفطر وأفطر الناس معه، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النار، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحدا يخبر قريشا؛ ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها.
الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل مكة
»
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه لدخول مكة حتى انتهى إلى ذي طوى، وكان يخفض رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس راحلته، وهناك وزع جيشه، وكان خالد بن الوليد على ميمنة الجيش ـ وفيها قبائل أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدا، حتى توافوني على الصفا. وكان الزبير بن العوام على الميسرة، وكان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من ناحية كداء، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه. وكان أبو عبيدة على المشاة والحسر (وهم الذين لا سلاح معهم) فأمره أن يأخذ بطن الوادي، حتى يدخل مكة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها، فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا قتلوه، وقتل من أصحابه من المسلمين كرز بن جابر الفهري وخنيس بن خالد بن ربيعة، كانا قد شذا عن الجيش، وسلكا طريقا غير طريقه فقتلهما المشركون، وقابل خالد وأصحابه سفهاء قريش الذين تجمعوا لحرب المسلمين بالخندمة فقتلوا من المشركين اثني عشر رجلا فانهزم المشركون، وانهزم حماس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته، فقال لامرأته أغلقي علي بابي، فقالت: وأين ما كنت تقول ؟ فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمة واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لهم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه (الغمغمة والهمهمة: الصوت غير المفهوم، يعني أصوات أبطال المسلمين في القتال، والنهيت: الزئير) وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا. وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسول يطهر المسجد الحرام من الأصنام ويعفو عن القرشيين
»
نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه (استلم الحجر يعني لمسه وبدأ الطواف من عنده) ثم طاف بالبيت وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}. والأصنام تتساقط على وجوهها. عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع. وكان طوافه على راحلته، ولم يكن محرما يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمل الطواف دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام (الأزلام سهام كانوا يستشيرون الأصنام بعمل قرعة بينها، والاستقسام أصلا الحلف) فقال: قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قط، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت. ثم أغلق الرسول صلى الله عليه وسلم باب الكعبة عليه وعلى أسامة وبلال، ثم صلى هناك، ثم دار في البيت وكبر في نواحيه، ووحد الله، ثم فتح الباب، وقريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع. وكان الباب مرتفعا عن الأرض قليلا، فوقف وأمسك بجانبي الباب وهم تحته، فقال: لاإله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي (المأثرة: ما كان العرب يفتخرون به ويتخذونه وسيلة للتكبر) ، إلا سدانة البيت (أي خدمة البيت الحرام) وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد ـ ما كان بالسوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة (أي فخر) الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: (يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم) اذهبوا فأنتم الطلقاء.
رد الأمانات وإعلان شعار الإسلام
»
جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد بعد أن أعلن العفو العام ، فقام إليه علي رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا (أي لبني هاشم) الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء. وروي أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: خذوها يا بني شيبة خالدة مخلدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. وقال أيضا: يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. وحانت الصلاة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها، وكان ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح. وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما، فأغلقت عليهما باب بيتها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهما، فقال لها ذلك.